أما هذا فقد قضى ما عليه
من يقرأ كتاب ( ضحايا بريئة للحرب العالمية على الإرهاب) للدكتور / محمد بن عبد الله السلومي ..
يستحضر المقولة التي صدر بها هذا المقال, وهي لأحد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يعلق فيها على نقاش في الهواء الطلق بين صحابي ومروان بن الحكم _ أمير المدينة _ وذلك عندما أنكر الصحابي على مروان تقديم الخطبة على صلاة العيد.
في هذه الكلمة فقه عظيم نحن إليه أحوج ما نكون, فالصحابي المنكر لم يتعدّ حدود المسؤولية الأدبية, ولم يُسيس إنكاره ليطرح عبره شرعية الحكم الأموي, والصحابي الآخر قوَّم إنكار الصحابي الأول تقويماً موضوعياً بقوله ( فقد أدى ما عليه) وهي عبارة كافية للرد على تغيير مروان الحكم الشرعي لمصلحة الحكومة سياسياً , لقد كان الرد على التغير بالتذكير بوجود نص سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تحدد الصلاة أولاً فالخطبة تالياً .
لست أريد الإطالة هنا في قراءة الواقعة , لكن أكتفي بالقول : إن الاعتراض على خطأ السلطة يتسع للكلام, والذمة بذلك تبرأ ( أما هذا فقد أدى ما عليه ) وليس بالضرورة تجريد الحسام الذي قد يشفي النفوس مما تجد , والصدور مما تتقد ولكنه قد يمهد أو يبرر لشرور قد تمتد دهوراً لتصحيح خطأ لحظة انفعال فوار.
وإذا كان البعض وفي بعض الأقطار قد تفاعل مع الاستفزاز وراح يرد على الهيجان الأمريكي الجامح بعد 11/9 بالقوة ليردع القوة بمثلها مُنحياً كل الشرائع والقوانين ومتخذاً الغرائز مرجعيات, على الرغم من التفاوت الهائل بين قوة أمريكا وقوة خصومها, إذا كان البعض قد فعل ذلك حاسباً ومحتسباً فعله ردعاً لأمريكا, فإن الدكتور محمد السلومي قد لجأ إلى الكتابة بوصفها فعلاً, وبحسبها مقاومة, في الوقت الراهن لجأ إلى الكتابة لينقل المذبحة التي تذبح بها الأعمال الخيرية والإغاثية الإسلامية من الوريد إلى الوريد , لجأ إلى الكتابة لينقل واقع هذه المذبحة ووقائعها من خبر متقطع يبثه وسائل الإعلام على فترات متباعدة لتمرير دفنه مصحوباً بدفن آمال وآلام ودموع الملايين الذين كانت تمثل لهم هذه الأعمال الإغاثية بعد فضل الله تعالى شريان حياة القلوب متمثلاً بالكتاب الذي تحمله جمعيات الإغاثة وبالرغيف شريان حياة الجسوم الذي يتمضغه فقراء العالم.
تحرك محمد السلومي _ بتوفيق الله _ ثم بمتابعة دءوب ليرفع الخبر إلى مستوى القضية, وليواجه النسيان بتوثيق تجاوزات النظام الدولي والأمريكي خصوصاً المتجلي ليس بسحق هذه الجمعيات فحسب بل واجتثاث كل الأسس التي تدعمها سواء كانت قلوباً أو جيوباً أو تشريعات .
لقد أثبت لنا محمد السلومي في كتابيه (القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب) وَ (ضحايا بريئة للحرب العالمية على الإرهاب) كيف اتخذت 11/9 أو لعلها صممت لتكون ذريعة لإعلان الحرب على الجمعيات الخيرية , التي تتعرض لهذه الهجمة الضاربة لأنها باتت عنصراً فاعلاً وقوياً في السياسة الدولية بوصفها خطوطاً أمامية وخلفية تساند بالدعم المالي والدعوي المقاومة الفلسطينية, وتعبد الطرق للتواصل بين مسلمي الاغتراب الأمريكي والأوروبي وإسلام الوطن , ولتقديمها للمجتمعات العالمية والغربية نماذج إسلام الرحمة والعدل والعقلانية الذي يأبى أن يكون المسلمون شهود زور على مآسي الإنسانية, أو رهائن تساوم بهم جماعات ودول الإرهاب المحترف.
وإذا كان إدوارد سعيد (1935-2003) قد خاض من داخل أمريكا وفي قلاع قوتها الحقيقية _ الجامعات_ معركة كشف العدوان الغربي والأمريكي خصوصاً على حقوق وحدود وثروات المسلمين الثقافية والفكرية, إذ قد قادها باقتدار بعيد عن الانفعال وسجل إبداعات لافته ومتميزة, فإن الدكتور محمد السلومي _ وفقه الله_ يسير في الطريق نفسها _ طريق الكلمة _ الأبقى من الحجر والبشر _ التي تكشف بالشهادات الموثقة أن حرب أمريكا على ما تسميه الذرائع القوية للإرهاب المتمثل بالأعمال الخيرية والإغاثية _ ليست إلا حملة صليبية _ تتخذ ذرائع واهية لتخوض تحتها حرب كسر أي بعث إسلامي علمي أو خيري أو إبداعي بوصف مثل هذا البعث التعبير الأبرز لا عن وجود الإسلام فحسب بل عن قوته وقدرته الشراكة والتعاون في إغاثة الملهوف عقدياً ومادياً.
إن الهدف النهائي للحملات على الإرهاب دور المجتمعات الإسلامية وإبقاؤها كالأيتام على مآدب اللئام بحيث ترضى من الحضور والحضارة بما يتساقط من فتاة المائدة الغربية.
أحد رؤساء أمريكا السابقين كان يتوجس خيفة _ وهو يرى تزايد القوة الأمريكية _ أن تنتقل دولته من قوة تقوم على الحق إلى حق لا مستند له إلا القوة , لقد تحقق هذا التوجس, وبات ساطعاً وفاقعاً في السياسات والممارسات الأمريكية الداخلية والدولية , فلقد أدارت أمريكا ظهرها للقانون الدولي والأمم المتحدة في وقائع معروفة كثيرة.
إنها تعلي من شأن منظمات المجتمع المدني في داخل أمريكا, بوصفها العمود الفقري للحياة السياسية والاجتماعية في المجتمعات الحديثة في حين تواجه بضراوة شقائق هذه الجمعيات التي تحبو في البلاد الإسلامية, بضراوة وشراسة لتضييق الخناق عليها, وفي كتاب د. السلومي ( ضحايا بريئة للحرب العالمية على الإرهاب ) أمثلة موثقة تتبع فيها نماذج للتدخل الأمريكي الشرس ولنسمع معاً و لننظر كمثال ما فعلته الأجهزة الأمريكية مع الكويت نموذجاً …
إن مثل هذا الموقف من جمعيات الإغاثة الإسلامية سيسرع فهمنا لأي شرق أوسط كبير تريده أمريكا, إنهم ( الأمريكيون) يريدون إصلاح الخلل في التبعية, يريدونها تبعية خالصة من الشوائب الإسلامية أو العربية بل الإنسانية, تبعية خالصة للهيمنة الأمريكية.
أين حق الاختلاف ؟ أين اللجوء إلى القانون لحل المشكلات ؟ أين دعم المؤسسات الخيرية بوصفها نواة قيام مجتمع وتعبيراً عن وجوده, ومقدمة لقيام دولة حديثة ؟ أين أين ؟ كلها أسئلة دفنتها تداعيات 11/9 التي ضربت فيه أمريكا أو ضربت نفسها – كما تشير إلى ذلك أدلة قوية – كلها أسئلة دفنتها القوة الأمريكية, كما معها دفنت في زمن واحد قوة أمريكا الأخلاقية والأدبية والقانونية, وذلك عندما لم نر فرقاً كبيراً بين تصرفات الدولة العظمى ومغامرات فرقاء الصراع في الصومال وأفغانستان.
وأخيراً إذا كان اليهود قد حولوا ” المحرقة الألمانية ” إلى نص إدانة دائمة للنازية وسيف مسلط على كل من تسول له أفكاره عداء السامية , إذا كان اليهود قد نجحوا في ذلك , فهل ينجح كتاب ( ضحايا بريئة للحرب العالمية على الإرهاب ) أن يؤسس لبداية يعرف المسلمون فيها كيف يحولون مصائبهم إلى خطاب لا يعتمد جلد الذات بل من الدفاع إلى خطط ومطالب ومرافعات لمواجهة هذه النوائب, وذلك على مستوى المؤسسات الحكومية والمؤسسات الخيرية والأهلية والمدنية بل الأفراد, وكلها تتطلب قوة وعزيمة في المبادرات للسباق في ميدان التنافس في الخيرات.
اقرأ الكتاب لتعرف الجواب.
أما أنا فأقول: إن محمد السلومي قد أدى ما عليه وبقي ما علينا.
د/ مصطفى السيد
جامعة القصيم
1/1/1427هـ
لا توجد تعليقات