هل يمكن للوطن استعادة ما فَقَد من هويته؟!
«مقالي هذا ليس دفاعاً عن المؤسسات الإنسانية السعودية التي لم يوجد ما يُدينها أصلاً، بقدر ما هو غيرةٌ على الوطن وسيادته ومكتسباته، ودفاعٌ عن رسالته العالمية، ومعالج لانحسار دوره وتمدد معظم خصومه على حساب رسالته، وأهم من ذلك –وهو حق لكل مواطن- التنبيه لمصدر الخطر الكبير، وهو ضعف بوصلة الرؤية والاستراتيجية للوطن وسياسته الخارجية، فمن يُفرِّط في هويته الوطنية (عقيدته ورسالته) يفقد سيادته وقوته».
عباراتٌ كتبتُها قبل سنتين -تقريباً- بعنوان: (احتفالية مملكة الإنسانية)، وفي المقال وغيره ما يعكس مدى محاولات إقصاء الوطن عن هويته، وتغييب رسالته التي عمل بها عقوداً طويلة من الزمن، كما تكشف هذه المحاولات عن حجم الخسائر الكبيرة التي لحقت بهوية الوطن ومكتسباته وسيادته السياسية، ورسالته الإسلامية العالمية، وأرجو أن يكون ما حدث كبوة، وأن لا يكون الإقصاء والتغييب للعمل الخيري الإنساني السعودي في الساحات الدولية استراتيجية طويلة المدى.
الدول القوية تعتز بأيديولوجياتها وعقائدها ولغاتها وعدالتها وتلبية حقوق شعوبها -أنَّى كانت-، فالأفكار والعقائد هي مرجعية لمعظم دساتير الدول، وهوية للمجتمعات والشعوب، وهي جسر العبور لانتصار الثقافات وتقوية السياسات، والمؤسسات الإنسانية والإغاثية العابرة للقارات أذرعة خارجية لهذه الدول تقوي النفوذ والسيادة، وتخفف من الضغوط، بل إنها تمنح مساحات واسعة للمناورات مع الخصوم، وتعزز العلاقة بين الحكومات وشعوبها، وهي بما سبق تُعدُّ من معايير تحضر الدول، ومقياساً في تلبية حقوق شعوبها في العطاء والشراكة الميدانية في العمل الإنساني الخيري داخلياً وخارجياً بصفة تتكامل مع المعونات الحكومية الدولية، لكنها مستقلة عنها في المدخلات والمخرجات.
للوطن السعودي هوية لا يمكن اختطافها، ولحكومته وشعبه رسالة لا يمكن إلغاؤها أو العبث بها وتشويهها، صنعتها عقيدة صحيحة، وفرضتها محددات الوطن التاريخية والجغرافية، فوحدته الفكرية المنبثقة من منهج أهل السنة والجماعة هي هويته الحقيقية، وهي التي تمخَّضت عنها الوحدة السياسية ووُلدت من رحِمِها الدولة، فالعقيدة والسياسة توأمان لا ينفصلان في هوية الوطن حكومةً وشعباً، وعقيدة الإسلام هي الخيار الوحيد الذي كتبه الله لهذا الوطن وأهله، وهي لا تتعارض مع التجديد والإصلاح، فالاختطاف أو العبث بالهوية والرسالة -من أي جهة كانت- انتحار سياسي للوحدة، وإضعافٌ للقوة المحلية والإقليمية، وتهميشٌ للمكانة السياسية للدولة، والتجربة العملية في التعاطي السلبي مع هوية الوطن الفكرية ورسالته الإسلامية كافية من خلال النتائج محلياً وعالمياً مع الدول والشعوب الإسلامية، بل مما لفت نظر بعض وسائل الإعلام بتحليلاتها السياسية أن هوية الوطن الثقافية تعرضت لمحاولات الاختطاف -بالرغم من أنها عنصر قوته ومكانته!- وأن رسالته شُوِّهَت بأقلام وحملات داخلية وخارجية، بل وبقرارات سلبية مؤثرة -غير مدروسة النتائج- هزَّت ثقة الداخل، وأحرقت كثيراً من المكانة والمكتسبات في الخارج.
لقد تجرأ بعض المختطِفين بتترس مكشوف، فكتبوا في الصحافة وغيرها متنكِّرين لوحدة العقيدة التي هي أساس الوحدة السياسية للدولة كقول أحدهم: «لم تَعُد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب اليوم إلا عبئاً على الدولة السعودية»!، وطالب أحدهم بإلغاء جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية التي تُعدُّ من روَّاد المحافظة العلمية على الوحدة الفكرية!، كما طالبوا بإلغاء هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي هي من رمزيات المملكة باعتبارها دولة إسلامية، والتترس بما سبق جُبنٌ والتفاف.
ومن اختطاف الهوية والرسالة إلغاء أدوارٍ مشهودة للمؤسسات السعودية الخيرية والإنسانية، تُحقق رسالة الوطن ومكانته، وتُعزِّز دور سفاراته وملحقيَّاتها، وتدعم الحوار والصداقة مع شعوب العالم ودوله، وتنمِّي المحبة والإحسان، وتُضعف الكراهية، وتقلِّص من حجم جماعات التطرف والإرهاب، وتحفظ الوطن والمواطن -بإذن الله- من نوازل الدنيا وكربات الآخرة.
وبصورة أوضح اُنتهكت حقوق المؤسسات الخيرية والإغاثية المعنوية والمادية، وحقوق التطوع والمتطوعين فيها، ففي معظم دول العالم للشعوب مؤسساتها وحقوقها الإغاثية، وللحكومات معوناتها الدولية، ويتأكد الاعتداء على الحقوق حينما أُخلِيَت الساحات الدولية من النشاط السعودي، وتبدَّلت المصطلحات، فالعناوين الحضارية في قاموس الدول المتقدمة عن التبرعات والحملات الإغاثية والإنسانية أصبحت في القاموس الأمني والسياسي وبقوة النظام جريمةً وإرهاباً، والواقع يصدِّق هذا، وبالتالي اهتزَّت علاقات التعاطف والتناصر المتبادلة بيننا وبين شعوب العالم الإسلامي وأقلياته، مما يُسهم في توظيف الملايين من المسلمين لصالح خصوم هوية الوطن ورسالته الذين تمددوا في فراغنا وأصبحوا على حدودنا، بل وانتهى بهذا الغياب للرسالة الخيرية والإنسانية والتطوعية حزام الأمان السُّنِّي –بعدالله- في شمال الدولة وجنوبها، فالأفكار والإيديولوجيات المنحرفة لا يمكن مقاومتها إلا بالعقيدة الصحيحة والدعوة الإسلامية، فهي المقاوم الرئيس المتكامل مع الجوانب الأمنية والسياسية في التصدي للتمدد الإيراني العقدي الرافضي وتهديده للمنطقة.
وحسب كثير من المراقبين والإعلاميين فإن موت مَلِك ومجيء مَلِك آخر، وإعفاء وزراء وتعيين آخرين ليس هو الإصلاح المُنتظر فحسب، فكل غيور على وطنه ينتظر مع هذا الإصلاح في ترتيب البيت السعودي حماية الثقافة الأم للوطن وما فيها من الوحدة الفكرية، وذلك بإخماد صناعة الصراع والانقسام حول هذه الثقافة، وتقوية رسالة الوطن الإسلامية العالمية ومكانته وسيادته، وتعزيز حقوق المواطن الإنسانية والدينية في دعم هذه الرسالة في الداخل والخارج.
إن من أولويات تصحيح المسار والإصلاح فيه تجاوز أعباء مناحة ولطميات 11 سبتمبر الأمريكية، وتجاهل الضغوط الأجنبية وفزَّاعاتها المُكبَّرة بالعدسات الغربية عن حقوق الإنسان ودعم الإرهاب وغيرهما، ويبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية تفهم جيداً ما يدمر دول العالم الإسلامي، وتعمل بالحكمة الصينية القائلة: «إن أسهل طريقة لهزيمة عدوك، أن تجعله يستعمل سلاحه ضد نفسه، وأن تورطه في أخطاء مدمرة لقوته».
ومن لوازم ذلك على الدولة رفض ما يخرق سيادة الوطن، وينتهك حقوق المواطن، ويصنع القلق لصاحب القرار السياسي، ويكفي في أهمية العمل بمبدأ التجاهل عدم الرضا الأمريكي عن كل ما تسمِّيه الولايات المتحدة الأمريكية إصلاحات سعودية متواضعة!، فتقارير وزارة الخارجية الأمريكية المتكررة عن الحريات الدينية وحقوق الإنسان في السعودية وإدانتها! كافية في معرفة حقيقة الدوافع التي لن تنتهي، كما أن تصريحات أوباما في قناة CNN بعد زيارة التعزية في الملك عبدالله تؤكد سياسة الفزاعات والضغوط حينما قال أن: «الملك عبدالله الذي قدَّم للإصلاح جهوداً، كانت متواضعة!!!» متوعداً باستمرار الضغوط عن ما يسميه حقوق الإنسان!
ومن أهم الأولويات في الإصلاح المبادرة في التحول من حقبة الجمعيات والمؤسسات المحرومة من كثير من حقوقها إلى مفهوم القطاع الثالث المستقل عن القطاع الحكومي المرتبط بالدولة ودستورها، ليساعد في سَدِّ ثغرات الخدمات والمعونات الحكومية المحلية والدولية، ويكبح جماح القطاع الخاص بتعاونه مع القطاع العام من خلال مستشفياته وجامعاته ومدارسه غير الربحية، وليُسهم في التنمية والشراكة في معالجة البطالة، فالقطاع الثالث –عالمياً- يقوِّي سيادة الدولة، ويعزز أمنها الفكري والاجتماعي والسياسي، وهو الغائب تقريباً -مع الأسف- في وطننا المبارك.
وفق الله ولاة أمر هذا الوطن للعمل بما يحفظ هويته، ويقوي رسالته الإسلامية العالمية.
د/ محمد بن عبدالله السلومي
20/ 4/ 1436هـ
لا توجد تعليقات