تأتي أهمية الكتابة عن هذا الجانب المهم حول المبادرات الذاتية في تنمية الحياة المجتمعية، لا سيما في ظل الظروف الاقتصادية المُستَجِدَّة، حيث رحل كثير من العُمَّال، وحيث شُحت الموارد المالية للفرد والأسرة والمجتمع، وحيث ضَعفت الموارد المالية للجمعيات الخيرية، وتتأكد هذه الأهمية في ظل تعوِّد معظم الأجيال على نمط الوفرة والحياة الاجتماعية الاستهلاكية، وهو ما أنساها إلى حدٍّ كبير قيم التعاون الاجتماعي والتطوع، وأصبح ضعف التعاطي بقيم العطاء بين الأسر والأفراد والجيران سمة ظاهرة لاستغناء بعضهم عن بعض! وذلك بعد ظروف تنموية مباركة مرَّت على هذه البلاد –حفظها الله- وكانت هذه الظروف التنموية قد أغنت بعض الناس عن البعض الآخر إلى حدٍّ كبير، لكنها في المقابل أضعفت قيماً كُبرى وأخلاقيات مُثلى تحتاجها المجتمعات في كل زمان ومكان.
وحينما أكتب هذا المقال عن قريتي (الشنانة) فإن هذا ليس من التعصب لها، بل إن معظم القرى الأخرى كانت كذلك، إن لم يكن كلها بنفس الحال أو أكثر في عطاء الوقت والنفس والأرزاق والمال وتبادل المنافع، بل حينما أكتب عنها هنا كأنموذج فلأني عشتُها وكتبتُ عنها بعض المادة العلمية التاريخية، وهي كذلك متوفرة في بعض المصادر والمراجع.
لقد أدركت بنفسي -وأنا في السبعينيات من العمر تقريباً- كيف كان في قريتي (الشنانة) في محافظة الرس بمنطقة القصيم صورٌ متعددة ومتنوعة من التطوع والتعاون لدرجة أن إمام مسجد الجُديدة بالشنانة لم يقبل مكافأة الإمامة الشهرية فترة طويلة من الزمن قناعةً منه بأنها عمل تطوعي، كما أن من التعاون أن بعض الأغنياء من المدن كانوا يُسيِّرون رواتب شهرية متواضعة لسد احتياجات بعضهم من أسرهم وأقاربهم في الغالب سواءً عن طريق إمام المسجد أو بصورة مباشرة.
وقد سمعت من جدي سليمان السلومي –رحمه الله- ومن غيره، كيف كان عطاء مدرسته الخيرية للتعليم بالشنانة، وهي الوحيدة التي كانت أساساً للمدرسة الحكومية، ثم كيف كانت مدرسة الشيخ عبدالله السلومي –رحمه الله- في مسجد قريته لتحفيظ القرآن للصغار والكبار قبل الجمعيات المعنية بالقرآن، وكيف كذلك بادر بنفسه بإغاثة عائلة كاملة بمزرعة تُسمى “الغبية” حينما تَهدَّمت أسقف منازلهم في موسم مطير، وذلك بإسعافهم بنصب الخيام لهم، بل كيف كان لهذه القرية برجالها المخلصين أدوار إغاثية خارج الوطن، حيث كان التفاعل مع حملات الدولة في الإغاثة لليمن والسودان والصومال وأفغانستان في سنوات مضت، وذلك في جمع التمور والملابس بكميات وشحنات وفيرة، وغير هذا كثير من صور مبادرات التطوع الذاتية، ومن ذلك ما ورد في كتاب (الرس وأدوار تاريخية في الوحدة)، ومن صور التطوع والتعاون ما يلي:
أولاً: التعاون في التنمية الاقتصادية والاجتماعية: فالتعاون فيما بين جماعة القرى والبلدات هو السمة الأساسية للإنتاج قبل عصر (الوفرة والطفرة والاستهلاك)، وقبل معرفة الأيدي العاملة الوافدة، وأهالي الشنانة من النماذج -مثل غيرهم آنذاك- في هذا الشأن، والعمل التعاوني يُعدُّ من سمات الاستقرار ونمو المجتمعات وتنميتها، ومما يُحقق الأمن الاجتماعي والفكري بين الناس، وهو بالتالي مما يُعزِّز أمن الدولة ووحدتها وقوتها.
«لقد أدركتُ بنفسي زمن طفولتي وبداية شبابي صور التعاون فيما بين الأهالي في حفر آبار المزارع، وآبار المنازل (الحساوة) والعمل المشترك في زراعة الأراضي بالنخيل، وحرث الأرض لزراعتها بالخضار والقمح (المعية) وغير ذلك، وشراكتهم التعاونية في حصاد الزروع ودوسها وذريها في حزوم الصفا المتساوية، بطرقهم البدائية مثل الدوس للحبوب بأقدام البقر والإبل في بعض البلدات، ومثل دق الحبوب بالكابون (وهو مطرقة خشبية ثقيلة) ثم تطور دوسها بعجلات الحرَّاثات (الدركترات) الزراعية فيما بعد ذلك بعمل تعاوني فريد، وكذلك التعاون فيما بينهم في بناء مساجدهم وبيوتهم الطينية، وجني التمور (الجِداد) بعمل مشترك ينتقلون فيه من مزرعة إلى مزرعة، أيام جِداد التمر حتى النهاية، وكذلك يفعلون في وقت السيول فيما بينهم، لخدمة تصريف السيول إلى مزارعهم بشكل تعاوني، كما يتعاونون في الاحتطاب وجمعه في شحنات على السيارات لكل واحد منهم شحنة، وكذلك في الاتفاق حول من يرعى أغنامهم من أهالي البادية، يتم توظيفه بشكل جماعي للقرية مقابل نصف ريال أو ريال عن كل رأس من الغنم شهرياً، وتتجلى صور العمل التعاوني في ما يسمى (قهوة الجماعة) حيث يُزوِّدها الجميع بما تحتاجه من مواد القهوة والشاي وغير ذلك، لتحقيق الاجتماع فيما بينهم وإكرام ضيوفهم، وهذه الأعمال التعاونية، تنسجم مع قيم الإسلام، وهي قيم وأخلاق تُعزِّز الأمن الاجتماعي، وتُقوي السِّلم بين الناس عامة، كما تبني العلاقات الأخوية والعائلية والاجتماعية» (الرس وأدوار تاريخية في الوحدة: ص95-96).
ثانياً: العمل التعاوني المجتمعي في توفير الإسكان (1371ه): وعن هذا كتب الشيخ عبدالله بن محمد الخليفة في كتاب (الرس وأدوار تاريخية في الوحدة)، ومما ذكره كأنموذح عن أزمنة مضت حول قوة الإرادة التي صنعت شيئاً كثيراً من قِبَلِ شباب الشنانة قديماً مُذكِّرا أجيال اليوم، وموجِّهاً لهم رسالة بعنوان: (إلى شباب اليــوم في صنــاعة المستقبل) وفيها قال: «في بيئة من الفقر والحاجة والإيثار، ومع بلوغ شباب الشنانة سن الزواج، وبيوت أهاليهم غير المؤهلة في السعة، ولا تتسع لزوجاتهم مع أهاليهم، جاءت فكرة عند الشيخ سليمان السلومي وابنه عبدالله ثم رفاقهما –رحم الله الجميع-، وهي إنشاء مساكن لهم في أرض فراغ، خارج أرض قرية البلطانية والبلَّاعية، ولكن يصدق عليهم في هذا المقام قول الشاعر: (قرب الشفاء وما إليه وصول) فالتحديات كبيرة، لكن العمل التعاوني في ذلك الوقت قيمة محترمة ومقدرة من الجميع، وقد تجاوز أهل الشنانة، مثل معظم الناس في ذلك العصر، كل التحديات المتعلقة بالنفقة، أو البناء أو الزواج، بالرغم من أنهم لا يجدون لقمة العيش، والبعض منهم ثيابهم مُرَقَّعَة، وَهَمُّ الزواج يدق طبوله، وقد تجاوزوا هذه العوائق واتفقوا بقيادة الشيخ عبدالله السلومي على إنشاء حي أو قرية سموها (الجُدَيِّدَة) فمنهم من يُحضِر الطين، ومنهم من يُخَمِّره بالتبن، ومنهم من يصنع لبنات الطين للبناء، وهم عصبة كفاح متعاونون، يعملون جميعاً لصالح الجميع، فهم يعملون لأحدهم مثلاً يوم السبت، ويوم الأحد عند الثاني، ويوم الاثنين عند الثالث، وذلك بغرض أن يجف جدار الأول وتجف لبنات الطين، ثم يرجعون إلى كل واحد حسب السابق حتى يسقفوا منازلهم بخشب الأثل وجريد النخيل (سعفها)، وكان منهم البَنَّاء الماهر (الستاد) ومنهم النجار، ومنهم الماهر في صعود النخل لقطع جريدها، وكان أهل المزارع يفرحون بذلك إعانةً منهم للمحتاجين، وللتخلص من ذلك الجريد، وقد قامت المساكن أو البيوت بدون خسارة، ولا مواد مستوردة أو مشتراه، بل ولا أجرة عُمَّال، وبنوا بهذا العمل التعاوني مسجداً للقرية كما قاموا بحفر بئر للمسجد، وبهذا التعاون التطوعي، حَلُّوا مشكلة كبرى كانت تواجه الشباب في ذلك الزمن وهي مشكلة السكن، وبعد سنوات وسَّعَ الله على أهل هذه القرية (الجُديِّدة) أرزاقهم وصار لهم زوجات، وبنون وبنات، وإسهام في فعل الخيرات في هذا الوطن المبارك، والدرس المأخوذ من هذا لشباب اليوم؛ أن يعرفوا كيف تجاوز آباؤهم وأجدادهم تحديات الحياة، وظروفها الصعبة بالعمل والإنتاج، وليعلم شباب اليوم أن حياة الرفاهية الاستهلاكية، أسهمت في تقليل عزائمهم، ومن نتائجها أن الخمول قد غلب عليهم، فصار النوم نهاراً، والسهر ليلاً إلا من عصم الله“»(الرس وأدوار تاريخية في الوحدة: ص97-99).
ثالثاً: العمل التعاوني في حفل الملك سعود –رحمه الله- (1379هـ): لم تكن الأعمال التعاونية والتطوعية حصراً على احتياجات المجتمع الأساسية كما سبق، بل كانت تتعدى ذلك إلى إحياء المناسبات بالتعاون والتطوع كمواسم رمضان وما فيه من تبادل الطعام والصدقات، ومناسبات الأعياد والحج والعمرة وما فيها من صور التعاون، كما في حملة الحج التعاونية بتنظيم الشيخ عبدالله السلومي على مدى أكثر من أربعين عاماً، وكذلك عن طعام غداء الجمعة في بعض القهاوي وغير ذلك، ويظهر هذا التعاون والتطوع بين أهالي القرية في حفل الملك سعود كذلك، ابتداءً من فكرة الدعوة للزيارة، حيث كانت من الأهالي ومن معظم الأسر التي كانت تقطن الشنانة، ثم كان جمع المال اللازم لتنفيذ هذا الحفل، حيث (مائة ريال) على كل موظف أو صاحب مال وراتب، فهو تعاون من الجميع وتطوع من الجميع كذلك، وكذلك إعداد مقر الحفل وتجهيزه، فلم تكن الأيدي العاملة الأجنبية موجودة أصلاً، وقد تم اختيار أهالي الشنانة لمزرعة عبدالله الرداحي من الخليفة –رحمه الله- مقراً لهذا الاستقبال والحفل؛ نظراً لتميزها بفواكه الرمان والتين مع النخيل، وكانت إضاءة المكان بجلب مُولِّد الكهرباء من خلال هذه الميزانية الأهلية المشتركة، إضافةً للتعاون التطوعي المشترك بالتشغيل للكهرباء بخبرات اثنين من الأهالي، وكذلك كانت تصاميم مداخل قرية البلاعية ومداخل الحفل من البوابات الخشبية المصنوعة محلياً داخل القرية نفسها وبأيدي محلية كذلك.
وقد كان استيراد شاحنة من الفواكه الأخرى من الرياض لغرض الحفل بتعاون كذلك بين الأهالي، وكان الحفل الخطابي بتجهيزاته الكهربائية والصوتية وفقرات الحفل تعاوناً وتطوعاً من الجميع، وكل هذا وغيره مما يكشف أكثر عن روح الشراكة والتعاون، وبالتالي مما يعكس التراحم والتعاطف والمحبة بين الأهالي والجيران من شتى الأسر والبيوت.
والمهم في هذا كله عن التعاون والتطوع أن ترتفع حجم الدعوات للخير والعطاء، والتذكير بالأجر والثواب بالمنابر الدعوية والإعلامية ومناهج التعليم، فالدين وقِيَمه وتشريعاته من أقوى المحفِّزات والدوافع عالمياً للعطاء والتطوع، ونقاش هذا الموضوع هنا ليس أن يرجع هذا العمل الناجح سابقاً بديلاً عن مؤسسات القطاع الحكومي وأدوارها الرعوية والتنموية المباركة، ولكن ليكون رديفاً قوياً ومساعداً ومُكمِّلاً للقطاع الحكومي في وقت تزداد فيه الأزمات الاجتماعية الاقتصادية على كثير من المجتمعات والأسر، حيث التداعيات العالمية والمحلية للاقتصاد وأثرها على الحياة الاجتماعية بالفقر والحاجة والمرض والجهل والأمية وغير ذلك، إضافةً إلى تعدد صور مستجدات الاحتياجات الأسرية، كإيجارات المنازل للمحتاجين، وصيانتها، والرعاية الصحية، والتعليم للجميع ومستلزماته.
وفي الختام.. فهل نحن بحاجة إلى إحياء ما اندرس من قِيَم وأخلاقيات التعاون والتطوع والعطاء؟ هذا السؤال المهم الذي لا بد من طرحه، والبحث له عن إجابات حول إحياء هذه القيم في نفوس الفرد والأسرة والمجتمع؛ ليكون عطاء المسلم لأخيه المسلم، وعطاء الغني للفقير، وعطاء الجار لجاره، والقريب لقريبه منافساً ومُكمِّلاً لعطاء المؤسسات الحكومية والجمعيات الخيرية ومُخفِّفاً لبعض الأعباء، فعطاء الأفراد كما كان سابقاً لا يستهان به في تحقيق التعاطف والتكامل الأسري، والتراحم الاجتماعي، ويضاف إلى هذا أن المجتمعات لا زالت بخير ما دامت تمتلك رصيد التعاون والتطوع من دينها الباقي -بحمد الله- في الضمائر والنفوس، والله ولي التوفيق.
لا توجد تعليقات