تقريظ معالي الشيخ صالح بن عبدالله بن حميد
رئيس المجلس الأعلى للقضاء
الحمد لله وحده والصلاة على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن الدراسات الاستشرافية لمسار قوافل الخير المؤسسية تُضيف نوعاً من المدونات المعاصرة الجامعة بين حسن التصور وحاجات الواقع الخيري عموماً والإسلامي خصوصاً، وهذا بدوره يُكَوِّن رصداً موضوعياً يحمل في فصوله وسائل العلاج، وسُبل الوقاية وأدوات التنمية الواعية في جميع مراحل العمل الخيري، وهذا السِفْر (القطاع الثالث والفرص السانحة (رؤية مستقبلية)) الذي سطَّره أخونا سعادة الدكتور محمد بن عبدالله السلومي -وفقه الله- «يُعدُّ أحد الكتابات الواعية في مجالي المال والأعمال الخيرية، فقد رسم العلاقات التكاملية بين مؤسسات الدولة والمجتمع والجهات الخيرية العاملة، وقد تناول الباحث قضايا ذات بالٍ، وبَحَثَ وحَلَّلَ، وتوصَّل إلى نتائج ينشُدها العمل الخيري، فله من الشكر أجزله، ومن الثناء أوفاه،
وجديرٌ بالمختصين الإفادة منه، والمشاركة بخبراتهم وآرائهم في الميادين الخيرية كافة، تحقيقاً لقوله تعالى: )وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ([آل عمران : ١٠4].
وقوله تعالى: )كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ([آل عمران : ١10].
ومشاركة متواضعةً في هذه المسيرة فهذه إشارات ذات علاقة قد يستصحبها المتابع وفضل الله واسع:
· إن مصفوفات الدراسات المستقبلية أو الاستشراقية يجب ألا تخضع للمعطيات المادية وحدها بل لا بد أن تُبنى على أُسس من السنن الربانية في الكون، وتاريخ الأمم السالفة، والنظر في أي أوامر الله القدرية والشرعية، والقرآن الكريم بكلياته بين الأصول للباحثين في مجالات الكتابات المستقبلية، ولنا في سُنة نبينا محمد r ما يرسم التوازن في التعامل مع الوقائع والأحداث، والربط بن التفاؤل والتوكل والأخذ بالأسباب، فعلى قِدم العبودية لله تتوازن التقديرات البشرية، وتستقيم المعادلات وتبوء خطط الأعداء لسلب أهل الحق أمجادهم.
· العزلة التي تعيشها بعض العناصر الفاعلة في إقامة الجسور بين المؤسسات ذات الأثر والحضور في واقعنا يجعل بينها وبين حقيقة الظروف التي تواجهها الأمة غبشاً مما يفقدها استيعاب الاحتياجات التي تؤثر في رؤية الصواب والخلل في وضع المجتمع وتشكُّلاته، ومدى تأثير غيره فيه وتأثر به.
· تعوذ النبي r من العجز والكسل فهما القناتان لمن قعدت به همته وتمنى على الله الأماني.
قال ابن القيم: (وأخس الناس همَّة، وأوضعهم نفساً من رضي من الحقائق بالأماني الكاذبة، واستجلبها لنفسه، وتحلَّى بها، وهي لَعَمْر الله رؤوس أموال المفلسين، ومتاجر الباطلين، وهي قوة النفس الفارغة التي قد قنعت من الوصل بزورة الخيال، ومن الحقائق بكواذب الآمال، قال الشاعر:
أمــانـيَّ من سُــعْدَى رواءٌ على الظَّــــمَا سـقتنا بها سُعْدَى على ضمأٍ بَرْدَا
مُنَىً إن تكنْ حقًّا تكن أحسن الـمُنَى وإلا فقد عِشْــــنَــا بهـــا زمنــــاً رَغــــدَا
وهي أضر شيء على الإنسان وتتولد من العجز والكسل).
· فرسم النجاحات على لوحة الأماني لا تتحقق بها الآمال، فإن مسالك المتوكلين تنتهج الأسباب الموثقة بالاستعانة بالله، فاستحضار رسول الله r لوعد الله له بتمكين أمته لم يقعده عن الأخذ بأسباب النصر.
· الحديث عن مفهوم المال، وعلاقة المكلَّفين به في الشريعة الإسلامية حديثٌ ذو ميدان واسع، يستمد منه العاملون والمناهجُ المالية مدداً من المعالم المراعية لمقاصد الشارع، وحاجة المكلَّفين، ويكفي في بيان ذلك أن من أركان الإسلام وأصول الأحكام الزكاة الشرعية، ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r (بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان).
فهي حق الله في المال، وبه تتربى نفوس المسلمين على مسلك الإحسان والبر، فهما تصور وشعور وأعمال وسلوك.
ويسير في ركابها أنواع الصدقات والإنفاقات والأحباس في مسالك الذين يطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً، والذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين، وممن آتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين في الرقاب.
تصور وعمل ينشآن في ضمير الفرد والجماعة، فالصدقة في أثرها تهذيب لنفس مُعطيها، وهي في إخراجها عمل نافع مربح لآخذيها، وتحوّل المجتمع عن طريقها إلى أسرة يسودها التعاون والتكافل، والتوادُّ والتراحم، وترفع البشرية إلى مستوىً من العيش الكريم، المعطي فيه والآخذ على السواء.
ومما لا مراء فيه أن الشريعة تستقلُّ بأتباعها عن العبودية لغير الله فقد ذَمَّتْ تصيير المال وكسبه غاية، وأن يدور معه الرضا وجوداً وعدماً «تعس عبد الدينار، تعس عبدالدرهم، تعس عبد الخميصة».
لذا ترجم السلف الأخيار المقتدى بهم هذا المفهوم فكانت الأموال في أيديهم لا في قلوبهم.
· التاريخ هو مسرح التدافع، وانتصار القيم والشاهد على تفوق الأمم أو ظلمها، ومن خلاله تتجلَّى المبادئ العدلية، وموازين التمكين، ولكن ثمت معايير ضابطة لابد أن تُلحظ لاستقراء التاريخ حتى ينهل منها قاصد العبرة، ووازن الأحداث والمواقف على سنن الله في الأعصار والأمصار.
وثمت مدونات تاريخية طالتها أقلام استقزمت الإسلام وشوهت آثاره، فكان لزاماً أن تنهض همم أهله فتصنع تاريخها وتصوبه كما صنع الأجداد حيث نشروا معالمه ومبادئه بطرق عدلية فُتحت لها الصدور قبل الدور.
· لغة الأرقام في عصرنا تخضع للمدخلات ويُبنى عليها تصورات، فالتحرك معها يحقق غالباً الدقة في الوقاية والعلاج، والمشاريع الإسلامية لن تتعامل مع المتغيرات إلا ببناء رقمي ومنهج مؤسسي يعكس الإنجازات في كَمِّها الفاعل وكيفها الناضج وأطروحتها المشرقة.
· العمق في تحليل نجاحات المشاريع وإخفاقها سبيل جاد في نهوض العمل الخيري، فإن الدوران حول الذات والإعجاب بالإنجازات المحدودة يضعف الهمة ويخلد إلى الأرض، وهذا يفرز إعجاباً بالرأي وإحجاماً عن استقبال نصح الناصحين وقبوله.
· الوقوف أمام العوائق لانطلاق المشاريع نوع الانهزامية فإن التسخط من الظلام لا يضيء المصباح، والغياب عن الوقع غفلة وقصور.
وختاماً:
أسأل الله أن يجزي باحثه خير الجزاء وأن يبارك في علمه وجهوده وأن ينفع به الإسلام وأهله، كما أسأله جلَّ شأنه أن يُعلي كلمة التوحيد وأن يستعملنا في طاعته ويوفقنا لقَبول الحق ورحمة الخلق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
صالح بن عبدالله بن حميد
24 / 10 / 1430هـ
لا توجد تعليقات