22 يونيو 2023م
تتميز المنهجية العلمية للمفكر -أي مفكر- بأنها تقوم على تأصيل أي مسألة فرعية لترتبط بأصلها الرئيس، كما يعمل بهذا الشيخ المفكر الحُصين -رحمه الله-؛ حيث بعض الموضوعات المطروحة لديه للنقاش عن الغرب مثل: العلاقات الدولية، والمكر والكيد العالمي، ومناقشة موضوعات الحضارة الحديثة واقتصادها وحروبها ومخاطرها على الإنسانية تُعدُّ مؤشرات على هذه المنهجية. وهي موضوعات تُعطي تصوراً عن شخصية الحصين ومنهجيته المعرفية ووسائل الإقناع لديه كذلك، لاسيما قوله بالحق والعدل عن هدايا الغرب النافعة، ومعطياته الأخرى غير الجيدة، وهو ما يُعالج حالات الانبهار العامة بحضارة الغرب المعاصرة.
والحُصين بناءً على الحقائق والوقائع والأحداث يرى أن الغرب المتعصب بسياساته وأستاذيته هو أصل معظم الصراعات في العالم بأجمعه بشكل مباشر أو غير مباشر، بل إنه يُشخِّص جذور هذا المرض المزمن لديهم، حيث ممارسة (الفوقية والأستاذية) باعتبار أنفسهم العالم المتحضر، وغيرهم ليسوا بذاك، وإطلاق ألفاظ الانتقاص على غيرهم من الشعوب كالقول عن الآخرين بأنهم (طفل بالطبيعة) وما في الكلمة من مفاهيم القصور والاحتياج للآخر! إضافةً إلى أقوالهم عن اختيار (المشيئة الربانية) لهم، بأنهم أبناء شعب مختار! ومتفوق عرقياً! ومنتصر على الطبيعة! والحصين لا يقول عنهم هذا جُزافاً، بل إنه ينقل عن بعضهم حول هذه النظرة الفوقية، وفي الغالب أن هذه الأقوال تصدر من مفكريهم أو من أصحاب القرار السياسي في دولهم.
ويكرر الحصين الأدلة حول أستاذية الغرب بتعاطٍ معرفي، وذلك بقوله: «ويُعبِّر المؤلفان M.W.DAVIES, Z.SARDAR [ضياء الدين سردار وميريل وين ديفيز] في كتابهما Why Do People Hate America [لماذا يكره الناس أمريكا؟] وذلك بقولهما: إن اصطلاح (الطفل بالطبيعة) اصطلاحٌ مؤدَّبٌ مؤسَّس على الاستعلاءِ العنصريّ… إنّ فلسفةَ (الطفل بالطبيعة) في الحقيقة عاشَتْ طويلاً في الوَعْي الأوروبيّ، بل لا تَزالُ معَنا حتى الآن» [التسامح والعدوانية بين الإسلام والغرب، ص114].
والمفكر أياً كان لا يناقش القشور أو ما على السطح من ظواهر كما هو حال بعض المثقفين! وإنما يغوص في الجذور وأعماق القضية ليشخِّص ويرسم لغيره في الوقت ذاته خريطة التعامل مع الغرب متعاطياً مع تفكير الغرب ذاته ومنطلقاته، وطبيعة تكوينه النفسي والثقافي، ولهذا الاعتبار كَتَبَ الحُصيِّن كتابيه المعنيين بالغرب، فكان أحدهما عن التسامح والعدوانية لدى الغرب، والآخر حول العلاقات الدولية لدى الغرب كذلك، كما أن استدلالاته من كتابات الغربيين ليست استنتاجاً، لكنها نقولات صريحة وواضحة، ومما قال في تأصيل موضوع الأستاذية نقلاً عن الدكتورة الكندية كاثرين بولوك: «ليس من الغريب أن تَرِد في خطاب السياسيين وكِتابةِ الكُتَّاب عبارةُ (العالم المتحضر) يُشار بها عادةً إلى شعوب أوروبا، وأمريكا الشمالية، وتَعني بدلالة مفهومِ المخالفة أنّ غيرَهم من الشعوب (عالم غيرُ متحضر)» [المرجع السابق، ص115].
وعن هذه الفوقية والأستاذية نقل الحصين كذلك عن الباحث الأمريكي باترسون قوله: «تصوير التوسُّع غرباً بأنه تحقيقٌ (لمشيئة ربانية) على أيدي أبناءِ شعب مختارٍ ومتفوِّقٍ عرقيا -المسيحيين البيض الأنجلوسكسون- إذِ اختارهم الله للانتصار على الطبيعة، ونقْلِ الحضارة إلى القبائلِ التابعة المقيمة عند الحدود، وفي داخل الأقاليم الهندية» [المرجع السابق، ص110-111].
وتزداد الفوقية والأستاذية مع صعود اليمين المتطرف بأمريكا وبعض دول أوروبا، لا سيما عند فوز بعض الأحزاب اليمينية بتسلم حكومات دولهم، بل إن نظراتهم الدُّونية للآخرين بارزةٌ في كثير من كتاباتهم التاريخية والسياسية والأدبية، فيقول الحصين بتأصيل علمي عن تاريخ التسمية للحضارة الغربية وظروفها الاستعمارية، وذلك نقلاً عن المفكر الأمريكي توماس سي. بـاترسون: «صِيغت فكرة الحضارة في سياق التوسع الاستعماري الأوروبي فيما وراء البحار في إفريقيا وآسيا والأمريكتين وأيرلندا، وجرى المصطلح على ألسنة أبناء النخبة في الدول الأوروبية التي انطلقت في مغامراتها هذه، واستهدفوا التمييز بين أنفسهم وبين الشعوب التي التقوا بها، وما أن انتقل الأوروبيون إلى ما وراء البحار حتى استخدموا التصنيفات الفئوية الشائعة آنذاك، مثل عبارات المتوحشين والهمج والوثنيين والكفار والبرابرة،،، إلخ، لوصف أبناء الشعوب الذين التقوا بهم ولا يعرفون الكتابة» [المرجع السابق، ص109-110].
والحصين بهذا التأصيل العلمي الفكري للعقلية الغربية، يريد أن يصل بالقارئ من خلال عرضه العلمي والمنطقي ونقولاته من الكتابات الغربية ذاتها إلى أن العنصرية والفوقية وعدم التسامح صفات لا تنفك عن شخصية المتعصبين من معظم الساسة وبعض رجال الفكر والدين، وهؤلاء هم أصحاب القرار السيادي والسياسي لدولهم وللمنظمات الأممية كذلك، وهم من يعنيهم الحصين، وليس عموم شعوب الغرب المغلوبة على أمرها.
وحَوْل هذه الأبوَّة الجنائية أو الأستاذية الغربية أوضح الحصين أن رؤيتهم عن قصور الشعوب والأمم الأخرى، ليس أن العالم الآخر من غيرهم قاصرون أطفال فحسب، بل إنهم يحتاجون للجنس الغربي في جميع أمور حياتهم، وهذا ما يَعكِسُ طبيعة محاضراتهم ودروسهم المستمرة مع الدول النامية عن حقوق الإنسان! بل وسياساتهم الاقتصادية القائمة على سرقة ثروات الآخرين (الأطفال بالطبيعة) جرَّاء الاحتلال للبلدان، مما يكشف أكثر عن رؤيتهم الاستعلائية وما فيها من أستاذية مزعومة، وعن هذه الرؤية قال الحصين نقلاً عن كتاب (لماذا يكره الناس أمريكا؟): «إنها دائماً لبُّ المحاضراتِ التي تُلقَى على البلدان الناميةِ في الموضوعات المتنوِّعة من السياسة الاقتصادية إلى حقوق الإنسان من قِبَل البلدان المتقدِّمة التي نمَتْ وأَثْرتْ من الاستعمار، ولا تَزالُ تَجني الأرباحَ المشروعةَ وغيرَ المشروعة من نظامِ الاقتصاد العالميّ غيرِ المتكافئ الذي خلَقَتْه» [المرجع السابق، ص114].
والحصين بتعاطيه المعرفي الواعي يُبحر في التأصيل التاريخي، ويكتب بحرية وإنصاف حول طبيعة العقلية الغربية واستعلائها وفوقيتها وادعاء الأستاذية، بل ومشروعية شن حروبها على الآخرين، ليضع للقارئ مساراً معرفياً مؤصَّلاً في تعامله أو تعاطيه مع الغرب وقضاياه بفكره ومفكريه، وربما عامته بعد خاصته كما هو قوله عن معظم الأمريكيين، حيث يقول نقلاً عن باترسون: «وجديرٌ بالذكر أنّ سفيراً للولايات المتحدة لدى إنجلترا أعلَنَ في مطلع العَقْد الرابع من القرن التاسعَ عشرَ أنّ (العِرْق الأنجلوسكسوني الذي انحدَرْنا منه نحن الأمريكيين لم يَتجاوزْه أحدٌ في تاريخ الوجود)» [المرجع السابق، ص112].
التلازم بين الأستاذية والاحتلال:
أكَّد الحصين أن أيديولوجيا العنصرية والطبقية والاستعلاء اُستُخدم لتبرير الحروب والاحتلال! وذلك بقوله: «استخدم الأمريكيون [هذه الأيديولوجيا] في الولايات المتحدة لتبريرِ مزاعمِ تفوُّق العرق الأنجلو-أمريكيّ ومشاعر معاداة الهجرة إلى الشمال، وكذا لتبريرِ السياسات العنصرية في الجنوب، وبَرَّرت النداءاتِ من أجْلِ شنِّ حرُوب إمبريالية» [المرجع السابق، ص112].
إلى أن يقول الحصين أن هذه النزعة الغربية المتأصلة في عمق تفكيرهم، خاصةً لدى أمريكا؛ حيث العقلية الاستعمارية المصاحبة لفرض ثقافتهم وقِيمهم أزمنة الاحتلال السياسي العسكري وما بعد فترة الاحتلال، وهذا هو الأخطر حينما يَعدُّون هذا الاحتلال تحضراً وحضارة، وذلك نقلاً عن باترسون: «وبَدأت الولاياتُ المتحدة تُقدِّم نفسَها باعتبارها المركزَ وقوّةَ الدفع للحضارة الغربية… واعتقَد كثيرون من الرسميين في حكومة الولايات المتحدة أنّ رسالتَهُم ليستْ قاصرةً على الحفاظ على الحضارة، بل وأيضاً العمل على نشرِها إلى أبعَدِ أركانِ المعمورة، واستَلزم هذا أن يَتوافر لدى جميع الأمريكيين تقييمٌ وتقديرٌ عميقانِ للرأي القائل إنّ مجتمعَهم ليس فقط مجتمعاً استثنائياً فريداً، بل وإنّ أبناء هذا المجتمع أيضاً هم (شعبٌ مختار)، اختاره الربُّ لمهمة إنجازِ رسالته سبحانه لنشر الحضارة» [المرجع السابق، ص112-113].
ويُوضِّح الحُصين التلازم بين (الأستاذية) و(الاحتلال) مفسراً الدوافع النفسية الغريزية للاحتلال الذي يسميه المحتل استعماراً، وما صحب هذا من وحشية وحروب وإبادة وكراهية وعدم تسامح مع الشعوب الأخرى مما هو مدوَّن بكتب التاريخ، وذلك بقوله: «وأثناءَ الانسياح الأوروبيّ الاستعماريّ عامَلَ المستعمِرون في كثيرٍ من الأحيان الشعوبَ الأخرى كما لو لم يكونوا بشَراً، وارتكبوا نتيجةً لذلك ضدَّ هذه الشعوبِ فظاعاتٍ وحشية» [المرجع السابق، ص110].
كما ينقل الحصين عن باترسون أن تكريس مفهوم الحضارة الغربية يُبرر الاحتلال والوحشية لديهم، وذلك بقوله: «واستخدم سميث مفهوم الحضارة لتبرير هذه التصرفات التي تتسم بالقسوة والإخضاع القسري، واعتقد سميث أن الإنسان الإنجليزى هو الوحيد، شأن الرومان في المجتمع الكلاسيكي القديم الذي قدَّم للمستعمرة نظام سيادة القانون والسلم والسلوك المهذب» [المرجع السابق، ص110].
والحصين العلَّامة في معظم كتاباته عن الغرب يؤكد على أن هذه العقلية الغربية ليست لدى الكثير من أساتذة التاريخ أو الاجتماع أو المفكرين فحسب، بل تتجاوز إلى الرؤساء المُنظِّرين للسياسات الأمريكية! وكيف -كمثال- يَنْظُرون إلى المسلمين تحديداً لدرجة تَفْرِض على أي متعامل أو متعاطٍ مع الغرب وقضاياه وعلاقاته أن يستحضر هذه النزعة الاستعلائية المؤصَّلة لديهم، أو المتأصلة في نفوسهم، وكأنها أمراض وراثية!
والحقيقة أن أي تعاطٍ مع الغرب أو تعاملٍ يتم فيه استبعاد أو تجاهل هذه الاعتبارات المذكورة عن العقلية الاستثنائية (الأستاذية) الغربية المزعومة! لا يمكن أن يُفلح معه حوار عادل أو تعامل اقتصادي أو سياسي أو دبلوماسي، فضلاً عن اختلاف الجانب الثقافي بين الطرفين، خاصةً مع الشعور بالنقص أحياناً لدى الطرف الآخر تجاه الغرب وحضارته المادية، أو مع الهزائم النفسية والفكرية المصاحبة، وعن هذا كَتَبَ الحصين فقال: «وفي كتاب اقتناص الفرصة (أو كما يُترجم أحيانا الفرصة السانحة) Seize the Moment أوضح نيكسون الرئيس الامريكي السابق أن: معظم الأمريكيين ينظرون نظرة موحدة إلى المسلمين على أنهم غيرُ متحضرين، وَسِخِون، برابرةٌ، غيرُ عقلانيين، لا يسترعون انتباهنا! إلا لأن الحظ حالف بعض قادتهم وأصبحوا حكاما على مناطق تحتوي على ثلثي الاحتياطي العالمي المعروف من النفط» [مقال للحصين: تجربتي في الحوار مع الآخر]. ويوضِّح الحصين دوافع هذا الكتاب منه، بقوله: «وإنما قُصِد إبرازُ نموذج: كيف يَرى الغربُ نفسه، ويَرى الآخَر في مجال القِيَم الكونية» [مقال للحصين: هل في المملكة العربية السعودية حرية دينية؟].
ولعل ما سبق من أقوال واستدلال فيه تشخيصٌ للغرب يُساعد القارئ على الحُكم، وهل الغرب متحضر أو صاحب حضارة حقاً بهذا السلوك مع العالم؟! أم صاحب مدنية مادية وصناعة فقط؟ وهل يمكن المواءمة بين حقوق الإنسان والاحتلال البغيض بما فيه من انتهاكات لحقوق الأفراد والمجتمعات والدول؟! وكفى أن الغرب أطلق على بعض حروبه العالمية (الحرب القذرة) كما سمَّى أعماله المشينة بحق دول وشعوب العالم (استعمار) وما في هذه التسمية من قلبٍ للمفاهيم، وكأنه بهذا المصطلح أراد أن يقول مُضلِّلاً الآخرين: إن الأرض التي احتلها كانت دماراً وتحتاج إلى إعمار غربي، وبالتالي فإن هذا يتطلب احتلالاً! وكل هذا مما يُساعد على الحُكم على هذه الحضارة المعاصرة وأستاذيتها وصانعيها بمعطيات علمية معرفية، بعيداً عن العواطف، أو الكراهية التي تقود إلى أعمال خاطئة، وبالله التوفيق.
د. محمد بن عبدالله السلومي
باحث في الدراسات التاريخية ودراسات العمل الخيري والقطاع الثالث
[email protected]
المصدر: (صحيفة مكة)
لا توجد تعليقات